النحت في العصر الحديث
رغم الصلة الواضحة القائمة بين فن النحت من جهة وفن التصوير والفنون الترسيمية (الجرافيك) من جهة أخرى إلا أن تاريخ كل منهما مختلف إلى حد ما عن الآخر، كما أن كلا منهما يخدم أغراضا تختلف بوجه عام عن تلك التي يخدمها الآخر.
وفي الوقت الذي أصبحنا نشهد فيه. وبالذات في القرن العشرين. إقبالا متزايدا على اقتناء اللوحات الزيتية. فيما عدا بعض الأعمال ذات الأحجام الضخمة. لسهولة توفير الأماكن المناسبة لتعليقها داخل بيوت الأشخاص حتى العاديين منهم. لكنهم أغنياء بطبيعة الحال. نجد الأمر على غير ذلك تماما بالنسبة إلى النحت الذي يواجه مشكلة رئيسية هنا وهي صعوبة توفير المكان الملائم لوضع الأعمال النحتية داخل البيوت. ويزد الأمر سوءا أن البيوت نفسها أصبحت تميل إلى الصغر والضيق. ويعود ذلك إلى أن العمل النحتي بطبيعته يفرض وجوده الكلي على المشاهد ويدفعه بقوة إلى تأمل العمل بأكمله. بمعنى أنه يمكن لنا أن نتجاهل لوحة معلقة على جدار أو أن نكتفي بنظرة عابرة تجاهها. لكن التمثال يستلزم منا التوقف والتأمل ثم الالتفاف حوله. بل وحتى الارتفاع فوقه لأمكن ذلك. ولذلك كان من الطبيعي أن يكون المكان الأمثل لإقامة المنحوتات هو الميادين والساحات العامة والمتاحف دون البيوت العادية التي لا يتوفر بها عادة مثل هذه المساحات.
تقليدياً، لعب النحت دور الرديف لفن العمارة، لأن وظيفته كانت إضفاء اللمسات الجمالية على التصميم بحيث تسهم في تحسين الصورة العامة للمبنى وبالتالي فقد كان يعتبر جزءاً من المبنى إلى حد ما. وضمن هذا الإطار الوظيفي صورة في أعمال مايكل انجلو التي نفذها في مقابر آل مديتشي في فلورنسا وأيضا في أعمال برنيني في كنيسة سان بيتر في روما لو أردنا مثالا يوضح هذا المفهوم. لكن الأمر أخذ في التغير مع حلول أواسط القرن التاسع عشر حيث اخذ النحت يقتصر على افاريز المباني والعمارات باعتباره عنصرا زخرفيا أكثر منه عنصرا أساسيا له دور رئيسي في إبراز الفكرة المعمارية في التصميم. ورغم ذلك فقد احتفظت تلك العناصر بقدرتها على شد الانتباه وظلت قادرة على فرض وجودها الكلي لتستوقف المشاهد لتأملها والتمعن فيها. وأخذت المسارح والمنتزهات والقاعات والميادين تضم الكثير من المنحوتات باعتبارها ضرورة جمالية يصعب الاستغناء عنها.
أما في العصر الحديث فقد تغير الأمر تماما فأصبح النحت يعتمد إلى حد بعيد . خلافا لما هو عليه الأمر بالنسبة للتصوير على تلبية رغبات واحتياجات الغير ويمكن القول أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر فنادرا ما تم تنفيذ عمل نحتي لغرض خلاف ذلك. ولعل الاستثناء الوحيد يتمثل في تلك الدراسات لبعض الأعمال الكبرى أو الأعمال التي تنجز لتعرض كنماذج تغري البعض للتوصية على عمل منحوتة على نمطها. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح النحاتون. أكثر من الرسامين. مرغمين على العمل لتلبية مطالب وتواصي الأشخاص أو المؤسسات الراغبة في المنحوتات ويكون ذلك وفقاً للمعايير والمفاهيم الفنية لتلك الجهات وليس وفقا لرؤية الفنان أو مفاهيمه الفنية الخاصة. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن (على الأغلب) اتسمت تلك الطلبات والاحتياجات باتجاهها إلى الأعمال المنفذة بأسلوب يغلب عليه الاتجاه الكلاسيكي بشكل أو بآخر. وعليه فإن من السهل علينا أن نستنتج السباب التي جعلت النحت ينحو نحو الاتجاه المحافظ.
ولئن كان من الصعب على الرسامين التأثيريين الاستمرار آنئذ في رسم صور زيتية بأساليب ثورية وفي نفس الوقت لا يقبل أحد على شرائها، فالأمر كان أكثر صعوبة بالنسبة للنحاتين. ومع ذلك فقد شهدت أواخر القرن التاسع عشر ثورة في النحت لا تقل في أهميتها وتأثيرها عن تلك التي أطلقها التأثيريون في مجال التصوير الزيتي.
والمفجر الحقيقي لتلك الثورة كان رجل واحد. ولكنه واحد من اعظم النحاتين في تاريخ الفن الغربي بعد دوناتيللو ومايكل انجلو وبرنيني. ونعني بذلك النحات العظيم رودان (1840-1917) وسيكون أمرا طبيعيا أن تقارن تأثير رودان كنحات بأثر التأثيريين في التصوير مع أنه بروحه لم يكن تأثيريا على الإطلاق، ولكنه اتفق معهم في نظرتهم إلى الفن آنئذ من انه اصبح هزيلا. خاصة الفن الرسمي العادي. وان النحت بالذات قد اعتراه والذبول كونه أصبح يقوم على تكرار الأعمال الممجوجة لعصر النهضة ويدور في فلك أفكارها.
وحين كان منكبا على إنجاز أحد أشهر أعماله وهو تمثال "مواطنو مدينة كالاس" كتب إلى عمدة المدينة معلقا على التمثال قائلا أنه سيتضمن ما يمكن أن يكون حسيناً وتطويرا نحو الأفضل، لأن التماثيل والنصب المقامة في مختلف المدن تكاد تكون هي نفسها باستثناء بعض الاختلافات بالزيادة أو النقصان في بعض التفاصيل. ونخرج من ذلك أنه كان يرفض النمطية في الأعمال الفارغة التي ينفذها معاصروه من الأكاديميين المتأثرين بالنحاتين التاريخيين، باعتبارهم أساتذتهم ومعلميهم، رغم أنه نفسه كان متأثرا جدا بنفس أولئك الأساتذة حيث لا مجال للشك بأن جذوره الفنية كانت ضاربة في روائع النحت اليوناني ونحت عصر النهضة.
ورغم أن رودان لم يلتحق بمدرسة رسمية للفنون. وتلقى تدريباته الأولية في مدرسة للصنا يع والحروف وهي مدرسة "بتايت" إلا أن سر تميزه كمدرسة قائمة بذاتها يكمن في قدرته المهلة على التشكيل كنحات مشكل، والمعرف إن هناك أسلوبان أساسيان في النحت بصورته التقليدية وهما الحفر والتشكيل. فبالحفر يعالج الفنان خامته من الحجر أو الخشب أو غيره عن طريق إزالة الأجزاء الزائدة من الخامة. فالصورة بالنسبة إليه موجودة داخل كتلة الخامة وهو يراها طيلة الوقت بعين خياله ودوره أن يعمل على إظهارها وإطلاقها من معقلها. فهي واضحة في ذهن من يباشر العمل. ومن هنا فعمله لا يحتمل أي خطأ جسيم يمكن أن يشوه تلك الصورة. أما النحت بأسلوب التشكيل فأمره عكس ذلك تماما إذ نرى المثال هنا يبني ويضيف ليصل إلى الشكل المطلوب عن طريق خامات طيعة مرنة هي في العادة الصلصال أو الشمع. وخلال كل مراحل العمل يكون التمثال قابلا للتعديل أو التغيير، وليس هناك أخطاء جسيمة لأن أي جزء يمكن إزالته وإعادة تشكيله، ولذلك فإنه بالنسبة للمشكل (مثال الطين). فالفكرة يمكن أن تتبلور أثناء العمل. لأن الخامة تستجيب فورا للمسات الفنان ويداه التي تعتبر أكثر أدواته حساسية تعمل مباشرة لتجسدها ما في ذهنه.
وما من شك بأن رودان واحد من أعظم ، وبعضهم يقول بل هو الأعظم. المثالين في تاريخ النحت. فالطين بالنسبة له يعتبر امتداد للتصور القائم في ذهنه. وكانت لمسته واثقة إلى حد أن الشكل النابض بالحياة كان يبدو وكأنه يتدفق من ذهنه منسابا عبر أصابعه التي تعالج الطين. ورغم إن هذه الميزة والقدرة فيه كانت كافية لتصنيفه في مصاف العظام إلا أن إسهامه في وضع مفاهيم الجمال الحديث يحتل منزلة أكثر عظمة وأهمية.
فلقد كانت الدارج آنذاك لا يخرج عن كونه أعمالا إيضاحية تمثل نماذج معروفة ومتعارف عليها وميادين المدن وساحاتها كانت مليئة بمجسمات ذات أوضاع بطولية كلها متماثلة وعلى نفس الوتيرة. فجاء رودان واستطاع بقدرة مذهلة أن يضفي على تماثيله واقعية شديدة الإقناع. وعمله الضخم الأول " عصر البرونز" آثار اعــتقادا بأنه قد صبه على نموذج حي . وهذه الواقعية استكملت عظمتها في الاختيار المناسب لاسم العمل وهو "عصر البرونز" لأن الرمزية فيه كانت واضحة تماما وتوحي بيقظة الإنسانية في ثوب الشباب الكامل.
ورغم ذلك فلم يكن رودان مجرد نحات واقعي فقط بل حاول أيضا أن يعبر عن المضمون العاطفي مستخدما الشكل البشري لإبراز الأمل والألم لدى الإنسان محدثا ثورة في تغيير أسس المفاهيم الجمالية في النحت الحديث. وفي تمثاليه "مواطنو مدينة كالاس" و "بلزاك" اللذين ربما كانا أعظم أعماله يقدم نماذج غير عادية لما يجب أن تكون عليه تماثل الميادين العامة إذ أرسى من خلالها قواعد جديدة في كيفية التفكير بالعمل النحتي.
أما معاصره ادوار ديما (1834-1917) فقد عرف بأنه أحد رسامي مدرسة ما بعد التأثرية ولكنه قام بعدة منحوتات في وقت لاحق من حياته ومنها تمثال "الراقصة الشابة" الذي نفذه عام 1879 بواقعية مذهلة ولكنها تميزت باختراق سيكولوجي ظاهر تجلى في تعبير تلك الصبية الشريدة ذات الأربعة عشر عاما يسكنها الخوف وتبحث عن الأمان جعل العمل شديد التأثير العاطفي ويتجاوز كونه قطعة فنية للمشاهدة فقط. وكل دراسات ديا على مواضيعه المفضلة الراقصات، النساء المستحمات، الخيول، تظهر بوضوح براعته الفائقة في التشكيل الذي يتدعم بتعاطفه وتفهمه الواضح لتلك المواضيع.
وهناك معاصر آخر لرودان هو"ميداردو روس" (1858-1938) وهو إيطالي عمل في باريس خلال ثمانينات القرن الماضي تميز بالاتجاه التأثيري أكثر من رودان كان نحاتا مشكلا مستخدما الشمع في غالب الأحيان. استلهم مواضيعه من الصور الحياتية اليومية التي توحي بالشكل أكثر مما تخلقه.
سطوح تشكيلاته لم تكن مستوية فبدا وكأنه يحاول أن يشكل الضوء ذاته. وأهميته تكمن في أنه يوحي بتفكيك أو تحليل عناصر الأجسام. وهو أسلوب جديد يتيح حرية أكبر في معالجة الشكل إلا انه يعتمد على الملاحظة الشديدة.
كان هناك العديد من النحاتين الذين انتهجوا نهج الحركات الجديدة للفن الحديث في أوائل هذا القرن.وأحيانا ما كانوا هو أنفسهم رواد هذه الحركات وغالبا ما كانوا نحاتين ورسامين معا.
فبوتشيني مثلا كان أشهر المبدعين في حركة "المستقبلية". وعملاه "أشكال فريدة في الفضاء و"تطور زجاجة في الفضاء" تعتبر من أهم الأعمال في الحركة إن لم تكن ضمن اعظم منحوتات القرن. ونذكر أيضا بيكاسو وماتيس اللذين عملا منحوتات مهمة جدا. حتى النحاتين الذين لم يتقيدوا بمدرسة معينة إلا أن يكون الأمر استجابة لحالات مزاجية خاصة كان منهم بعض البارزين الذين رغم انفصالهم تماما عن أي من المدارس المتسمة بالمعاصرة إلا انهم أسهموا بشكل كبير في خلق المفاهيم الجمالية الحديثة.
في ذلك الوقت. كما هو الأمر في الوقت الحاضر أيضا.كانت الحاجة مازالت قائمة لتخليد الشخصيات البارزة من سياسيين وجنود أدباء.. الخ بأعمال نحتية. لكن هذا النوع من النحت رغم أنه موجود في كل العصور إلا انه لا يحتل موقعا مهما في التاريخ العام للفن الحديث لأنه نشاط عام ولا يعتد به في دراسة تطور النحت.
كان لوردان تلميذ بدا وكأنه تابع مخلص لمنهج أستاذه وأنه سيكمل رسالته موصلا إياها إلى آفاق أرحب ومجالات أوسع إلا انه لم يحتفظ بذلك الاتجاه بل مال عنه بتأثير الاغراءات المادية التي وفرتها له الطلبات الخاصة والتي كانت كلها وفقاً للمنهج الأكاديمي كان ذلك الفنان هو اميل انطوان بورديللي (1861-1929). أما ميلول(1861-1949) فهو أيضا أحد تلاميذ رودان الذي بدأ حياته الفنية كرسام منتم إلى الحركة النابية ثم اتجه إلى النحت حين شارف على الأربعين من عمره عقب عملية جراحية أجراها لإحدى عينيه. وفي هذا المجال استقر على أسلوب واحد وموضوع قلما تغير وهو الإناث العاريات في أشكال مبسطة وأوضاع محددة بانحناءات واستدارات جميلة رشيقة تذكرنا بموديلات رينوا. ويمكن القول أن كل أعماله الفنية تندرج ضمن هذا القالب : أشكال مبسطة وأوضاع محددة متفقة غالبا في الإيماءات مع تباين طفيف، كل ذلك من خلال تأثر واضح بالنحت اليوناني. إلا أن بصمته كانت واضحة في أيجاد أسلوب في النحت خلا من الرشاقة والإثارة الدرامية المميزة لأسلوب رودان فبدا وكأنه كلاسيكية حديثة احتفظت بمقوماتها الكلاسيكية وعنصر الحداثة فيها هو الإحساس الكامن بها.
وهناك أيضا المثال رايموند دوتشامب (1876-1918) ذو الموهبة الفنية والذي سرعان ما تحول من المدرسة الأكاديمية إلى الأشكال المبسطة التي توحي بالتحليل التكعيبي. وقد تميزت مجموعة أعماله النحتية الموسومة" الحصان" بأنها جمعت بين قوة الحيوان وقوة الآلة.
أما الإيطالي اميديو مودلياني (1884-1920) فكان ذا موهبة نادرة، كان رساما ونحاتا متميزا بأسلوب متفرد. ولكنه كان يوهيميا في حياته منغمسا في الملذات رغم إصابته بالسل.
وكان وسيم الشكل وزئر نساء ومدمن مكيفات. وكثيرا ما ردد بأنه سيظل يشرب حتى الموت وحقق ذلك فعلا. اعتبر نفسه أفضل فناني إيطاليا. وكان يقول بأنه نحات في المقام الأول رغم أن لوحاته الزيتية. وخاصة تلك التي تناول فيها النساء العاريات. تأتي في مقدمة أعماله التي اشتهر بها. وقد بدأ واضحاً أنه تأثر بفنون نحت العصور الوسطى وعصر النهضة وكذلك بالفن الأفريقي. ذلك رغم أن الرؤوس المبسطة والاستطالات التي هي عليها لا توحي بارتباطها بعصر محدد بقدر ما هي ضاربة في أعماق التصورات البدائية الموغلة في القدم.
وصداقته مع برانكوزي (1876-1957) وهو فنان روماني كان يقيم في باريس. أثارت شكوكا بأنه في بداياته قد تأثر ببرانكوزي فهناك بالفعل صور من التشابه قائمة. وقد تطور برانكوزي ليصبح أحد أهم شخصيات النحت في القرن العشرين، والمؤثر الأساسي في أحد اتجاهاته المميزة وهو الاتجاه المستمر نحو التجريد. وقد اختلفت الآراء فيما يخص التجريد. إذ رأى البعض أن ليس هناك ما يسمى بفن تجريدي حقيقي. وأن ما يمكن أن يقال في أعمال برانكوزي أنها تنتمي بشكل رئيسي إلى التجريد أكثر من كونها تجريد حقيقي صرف.
ومع ذلك فهو يصقل الأشكال ويهذبها ويحورها برؤية تجريدية مع احتفاظها بكل العلاقات المرتبطة بالموضوع الأصلي. وفي منحوتته " السمك" و"طائر في الفضاء" نرى أن الروح والإحساس والفكرة قد تم اختصارها جميعا وتقليصها إلى شكل موحد بسيط. هذا الاهتمام باستبعاد وإزالة كل العناصر الخارجة عن جوهر الموضوع مع الإصرار على رفض استخدام أي منها كرمز هو أكثر ما يميز برانكوزي عن رودان الذي كثيرا ما أبدى إعجابه الواضح بقدرات ومواهب برانكوزي وحاول كثيرا أن يلحقه به كمساعد له ولكنه لم يوفق إلى ذلك بسبب ميل برانكوزي الشديد إلى الاستقلالية والتفكير الفردي الطليق. وفي سعيه فقد المتواصل لتحقيق الكمال في السطوح فقد استعان بالكثير من التكنولوجيا مع الكثير من الجهد الشاق.
فكان لا يكف عن العمل ويستخدم وسائل تكنولوجية كي يصل إلى الشكل والملمس المطلوبين وقد قال جاك ليتش النحات التكعيبي المعروف الذي كان مرسمه ملاصقاً لمرسم برانكوزي بأنه قادراً على سماع الصوت الناتج عن عملية الصقل بشكل يكاد يكون مستمراً. وعملية الصقل هذه يرى برانكوزي أنها ضرورة أساسية تستلزمها الأشكال المطلقة في حالة استخدام خامات معينة. وهذا الإغراق في اللجوء إلى الصقل والملمس في النعومة حتى ليبدو في العمل في النهاية وكأنه صنع آلة، يوحي بأن هناك شكل نهائي مطلق يسعى الفنان دون كلل للتوصل إليه من خلال عملية التقليص والصقل وهي وجهة نظر تشكل إحدى السمات الجمالية للنحت في القرن العشرين. وهذا يعني أن الأمر ليس مجرد إزالة أو تخلص من بعض المظاهر الزائدة ولكنها إيمان مسبق بالصورة النهائية البسيطة كهدف بحد ذاته يبعث التوصل إليه في نفس الفنان مقدارا من الراحة أكثر بكثير مما يبدو لنا. فالبيضة يمكن أن نرى فيها معنى يشير إلى بداية العالم أو إلى الأمومة أو الحياة التي لم تتحقق بعد أو أي معنى آخر من هذه المعاني المتضاربة وهي فلسفة عبر عنها أحدهم ببساطة تبدو وكأنها لغز حين قال "كلما قل ازداد"، وأصبحت هذه الفلسفة عقيدة وقناعة تفصح عن نفسها من خلال أعمال لا شيء واضح فيها سوى اسمها حتى الغرف التي توضع فيها تكون خالية من أي شيء ولا يملؤها إلا الفراغ.
وبطبيعة الحال فهذا لا ينطبق على برانكوزي. بل إن الأمر معه على عكس ذلك تماما. فعملية الصقل لديه المثيرة للعواطف والأحاسيس مقصودة وتستهدف والإيضاح وإبراز الجانب المناقض للغموض والغرابة. واختياره للخامات المستخدمة يعتمد على مدى ملاءمتها للموضوع والصورة النهائية التي يحرص على الإبقاء على ارتباطها الوثيق بالشكل الأصلي للموضوع. ذلك رغم أنه في بعض الأحيان يلجأ إلى تكرار الموضوع بخامات مختلفة.
ومكانة برانكوزي في تطور النحت الحديث ليست موضع نقاش أو جدل. وعقب وفاته عام 1957 اتخذ النحت مساراً جديداً حيث اتجه إلى التجريدية المبسطة ذات الفراغات الزخرفية. وهناك أيضا النحات السويسري المولد "البرتو جياكوميتي" (1901-1966) الذي اتخذ من باريس مقراً لعمله منذ عام 1927 وبقي فيها حتى وفاته. تميز هذا الفنان بأسلوب شديد التفرد وحظي بشهرة واسعة. اتجه إلى السريالية في مرحلتها المبكرة ثم هجرها إلى أسلوب آخر يتميز بتقليص الأشكال إلى حد جعلها تبدو كالعصا بسطوح خشنة نافرة ولكنها تنضخ بأحاسيس طاغية بالعزلة الإنسانية الشديدة.
ورغم أنه في أشكاله يبقى فقط على العناصر الأساسية للموضوع حتى ليذكرنا بأسلوب برانكوزي إلا أنه يختلف عنه في خشونة سطح الأعمال وافتقارها إلى الشكل الصريح المحدد. ولكنها في النهاية تثير في النفس الكثير من الأحاسيس والشجون. وأعماله النحتية في جملتها تتضمن تكراراً يبدو وكأنه تكرار قسري يفرض نفسه. عليه مما يجعل تأثيرها الكلي أقل من ذلك الذي تشيعه رسوماته ولوحاته التي تنطوي على الكثير من العناصر المثيرة لمشاعر الرثاء والشفقة والقوة معاً.
وإذا ما تطرقنا إلى النحت عند ماتيس نجد أنه بدأ في ممارسة هذا الفن منذ عام 1900 تقريبا. وإذا كان من الممتع حقا أن نتأمل في أعمال ماتيس النحتية كامتداد للمدرسة الوحشية في التوصيل التي كان رائدها. فإن هذا الأمر على ما يحمل من صدق إلا أنه يمكن القول أيضا أن تأثره الأساسي في البدء كان بالفنان رودان.
وتمثاله الأول "الصبر" الذي يصور رجلا واقفا عاريا يشير بوضوح إلى علاقته بتماثيل رودان "الرجل الماشي" و"البابا يوحنا" وبأحد الشخوص في تمثال "مواطنو مدينة كالاس" رغم أن مثل هذه العلاقة لا نرى لها أثراً في المراحل التالية حيث مال إلى التجريد ولكن على نهج مغاير لما كان عليه نهج برانكوزي وجياكوميتي.
وأثر ماتيس في التطوير يبدو واضحا من خلال التماثيل البرونزية الأربعة التي أنجزها خلال الفترة من عام 1909 وحتى عان 1930. وهى تمثل ظهر فتاة عارية بتفاصيل شديدة الوضوح والبروز والتمثال الأول من هذه السلسلة يشير إلى إن في ذلك الوقت كان لا زال متأثرا برودان. وتميز التمثالان الثاني والثالث بتداخلات تحليلية في الأشكال أظهرت بوضوح مدى فهمه واستيعابه الكامل للمذهب التكعيبي رغم أنه لم يكن تكعيبيا على الإطلاق. أما العمل الرابع والأخير فقد كان مزيجاً متناغماً ومؤتلفا من البساطة والضخامة معا، في تشكيلات مترابطة تقدم لنا نموذجا لما يجب أن يكون عليه فن النحت في المقام الأول. ولا شك بأن امتلاك مثل هذه القدرة وهذا التمكن الكثير من الكفاح الصادق والعمل المتواصل. وربما كان ماتيس قد توقع الأسلوب الذي سيأخذه النحت على يده عندما قابل رودان لأول مرة غير أنه في المراحل التالية نرك التفاصيل التي تهدف إلى الشرح ومال إلى أسلوب الدمج الذي ينبض بالحياة والإيحاء.
Bookmarks